مشروع "مارشال" لدول الساحل وغرب إفريقيا

 مشروع "مارشال" لدول الساحل وغرب إفريقيا
الصحيفة - افتتاحية
الخميس 4 يناير 2024 - 1:00

نادرا ما نرى رئيس دولة في إفريقيا يُفكر في بلاده كما يفكر في تنمية محيطه الإقليمي والجهوي، كما فعل الملك محمد السادس في مبادرتين تاريخيتين بإمكانهما أن تغيرا مستقبل منطقة غرب إفريقيا ودول الساحل إلى الأفضل، بعد أن جعلت منها القوى الكولونيالية دولا وظيفية تخدم أجنداتها الجيوسياسية والاقتصادية بعيدا عن أي مبادرات استراتيجية تنموية يمكنها أن تُخرِج شعوب هذه المنطقة من الفقر والصراعات الإثنية والعرقية والانقلابات العسكرية إلى برامج ترسم معالم مستقبل أفضل لأجيال "ضائعة" من شعوب إفريقيا جنوب الصحراء.

أولى هذه المبادرات كانت مشروع أنبوب الغاز الطبيعي الذي سيربط بين نيجيريا والمغرب، وسيمر عبر 11 دولة من غرب إفريقيا، ليزودها بأهم مصدر للطاقة بهدف تحريك عجلة الاقتصاد وإدماجها في بنية تحتية موحدة وتاريخية تمنحها الدافع لحل الكثير من مشاكلها التنموية.

هذا المشروع لوحده كفيل برسم استراتيجية شمولية قائمة على بناء مستقبل تنموي مشترك بين دول غرب إفريقيا وشمالها من خلال تعزيز تعاون جنوب - جنوب، وفي ظل شراكة رابح - رابح التي ينادي بها الملك محمد السادس في العديد من خطبه.

يكفي أن ندرك، أنّ مشروع أنبوب الغاز (نيجيريا - المغرب) بإمكانه إخراج دول غرب إفريقيا من الضعف المُخيف في شبكات الربط الكهربائي بين مدنها وقراها، حيث تعتبر هذه الدول من بين الأضعف عالميا في معدل مَدِّ ساكنتها بالطاقة الكهرباية.

ووفقا لمعطيات رسمية، فإن حوالي 200 مليون من سكان دول غرب إفريقيا محرومون من الكهرباء، ما يعني أن عبور هذا الأنبوب عبر هذه الدول سيمكنها من الحصول على الغاز بأسعار رخيصة لتزويد محطاتها الحرارية المنتجة للكهرباء من أجل ربط المدن والقرى لخلق دورة اقتصادية تنموية ومستدامة.

وإذا أدركنا أن الناتج المحلي الإجمالي لدول غرب إفريقيا يصل إلى حوالي 670 مليار دولار، وعدد سكانها أزيد من 340 مليون نسمة، يمكننا حينها استخلاص أن هذه الدول بمثابة "قوة نائمة" يحاول الملك محمد السادس، بهذا المشروع، إيقاظها لتتخلص من بقايا التبعية لبعض الدول الغربية والإقليمية وخلق فرصٍ أفضل لشعوبها، كما سيعزز هذا المشروع إمكانيات بعض الدول في تسريع وتيرة اقتصادها كما هو الحال مع موريتانيا والسنغال بعد اكتشاف البلدين في عرض حدودهما البحرية حقل غاز ضخم مشترك يقدر محتواه بأزيد من 25 تريليون متر مكعب، وبوجود أنبوب الغاز "نيجيريا - المغرب" سيسهل عليهما تصدير ثروتهما الطاقية إلى أوروبا وتحصيل عائدات بملايير الدولارت سنويا، ستساعدهما على رسم معالم اقتصادهما المستقبلي.

وإذا كان مشروع أنبوب الغاز نيجيريا - المغرب الذي أُعلن عنه سنة 2016، يهم إعادة تشكيل الاندماج الاقتصادي لدول غرب إفريقيا، فإن الملك محمد السادس أعلن عن مبادرة ثانية، خلاقة، ملفوفة بكثير من العمق الاستراتيجي لتغيير واقع دول الساحل والصحراء (بوركينا فاسو، مالي، النيجر، وتشاد) التي أنهكها الاقتتال والفقر والانقلابات وضعف التنمية، حتى أصبحت بيئة خصبة للجماعات المسلحة المتطرفة، والانفلات الأمني، وضعف الدولة المركزية.

مبادرة العاهل المغربي التي أعلن عنها في خطاب الذكرى الـ 48 للمسيرة الخضراء، والتي اقترح من خلالها على دول الساحل والصحراء المحبوسة بدون منافذ بحرية الولوج إلى المحيط الأطلسي، ودعمها عبر إتاحة البنية التحتية للمملكة من طرق وموانئ، وسكك حديدية لتعزيز نمو هذه الدول وخلق جسور اقتصادية والتواصل التجاري لها مع العالم الخارجي، هي فكرة يمكن اعتبارها استراتيجية بامتياز، ونهضة لدول الساحل إن صدَقَت النوايا في التخلص من المصير العشوائي الذي تعيشه بعضها حاليا.

إنها مبادرة يمكن أن تقلل من كلفة الوصول إلى الأسواق الدولية بنسبة 20 و25 في المائة عن طريق التصدير والاستيراد من خلال الولوج إلى المحيط الأطلسي عبر ميناء الداخلة، وهو مُقترح هائل للتنفيس الاقتصادي عبر فتح ممر بحري لدول بدون منافذ بحرية، ومطوقة بصحراء شاسعة و"مظلمة"، وهو ما عكسه تصريح وزير خارجية مالي، عبد الله ديوب حينما قال "إن تقديم الماء يعني تقديم الحياة، والمغرب اختار توفير البحر"، ما يعني بالنسبة لوزير الخارجية المالي أن المملكة "منحت الحياة" لهذه الدول التي تبلغ مساحتها الإجمالية 4 ملايين كيلومتر مربع بتعداد ساكنة يصل إلى 90 مليون نسمة.

دول الساحل والصحراء التي مازالت تعاني بشكل منهِك من الجماعات المسلحة، مثل تنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" وتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، ومن نهب لثرواتها من الدول الغربية خصوصا فرنسا، وتدخل رخيص من طرف الجزائر في الشؤون الداخلية لدولة مثل مالي، تُدرك أن مبادرة العاهل المغربي يمكن أن تغير من واقعها، خصوصا وأنها دعوة لتدعيم بنياتها التحتية وبناء طرق ومسالك جديدة، وهو ما يمكنه أن يحفز المستثمرين الدوليين نحو هذه الدول لخلق فرص عمل جديدة ونسب نمو مرتفعة تساعد على رسم معالم تنمية جهوية بشكل أفقي.

هذا مع العلم أن ثلاثة دول من أصل أربعة (مالي، بوركينافاسو، والنيجر) معنية بمبادرة الملك محمد السادس، وقعت شهر سبتمبر الماضي على ميثاق "ليبتاغو - غورما" وهو تحالف أطلق عليه اسم " تحالف دول الساحل" الغرض منه إنشاء إطار جماعي للتعاون والدفاع المشترك، حيث قررت هذه الدول طرد الوجود الفرنسي من على أراضيها، بعد أن استنزفت باريس على مدى عقود ثرواتها من اليورانيوم والذهب والنفط لتغذية اقتصادها ومصالحها الجيوسياسية، وهو ما جعل دول هذا التحالف تعيد ترتيب معادلتها أمنيا وعسكريا واقتصاديا عبر خلق علاقات مع لاعبين جدد في المنطقة، فكانت اليد الممدودة للمغرب الذي تلقف هذا التغيير الاستراتيجي لدول هذا التحالف الجهوي من أجل تقديم مبادرة شراكة اقتصادية بعيدا عن أي تدخل في شؤونها الوطنية.

وعلى خلاف النظام الجزائري الذي كثرت الحرائق في بيت حُكمه، وأصبح عدوا لنفسه ولدول المنطقة، جسدت مبادرة العاهل المغربي فرصة من شأنها أن تعين دول الساحل والصحراء في تأسيس استقلال جديد لدولها، بعيدا عن الوصاية الأبوية التي فرضتها فرنسا عليها، أو على الفوضى العشوائية التي تحاول الجزائر تكريسها على هذه الدول وفق منظور الهيمنة و"القوة الإقليمية" التي تفترضها لنفسها. وإن تجسدت هذه المبادرة على أرض الواقع، فإن طموح الملك محمد السادس في أن تكون إفريقيا للأفارقة قد تَحقق جزء متقدم منه، مع إعادة رسم الخريطة الجيوساسية والاستراتيجية بشكل كلي خلال العقدين المقبلين.

تعليقات
جاري تحميل التعليقات

آن الأوان للمغرب أن يدير ظهره كليا للجزائر!

لا يبدو أن علاقة المغرب مع الجزائر ستتحسن على الأقل خلال عِقدين إلى ثلاثة عقود مُقبلة. فحتى لو غادر "عواجز العسكر" ممن يتحكمون بالسلطة في الجزائر، فهناك جيل صاعد بكامله، ...